عندما كان دولة الإسلام كالجبل لا تهزه عاصفة

د. صالح العطوان الحيالى
نتمعن كثيرا في رسالة هولاكو القائد المغولي إلى قطز قائد المماليك،
هولاكو الذي أحرق بغداد على الأرجح في (10\2\1258) ،صاحب عقيدة دينية ، ويرى أنه ينفذ عِقاب الرب في خلقه وما هو إلا مؤيّد ومنصور بقوة ذلك الرب الذي رفع راياته جدّه جنكيز خان ، ففتحت له الدنيا وأذلت الملوك والقادة والسلاطين، فامتلكهم واستباح بلدانهم وعاث فسادا وقتلا بديارهم. هولاكو المغرور بجيشه وجبروته يخاطب قادة الدول باستصغار ومهانة ولكن ليس كل ما يدركه المرء يتمناه كتب إلى الأمير المملوكي رسالة فيها تهديد ووليد وذل وإرسالها بيد أربعة من جماعته فكان الرد من الأمير قطز صاعقة وقعت على رأس هولاكو رد المؤمن المقتدر المسند من شعبه فقط رؤوس الأربعة وهذه إشارة لقبول التحدي .
هذا نص رسالة هولاكو إلى سيف الدين قطز، كما أوردها المقريزي في كتابه “السلوك لمعرفة دول الملوك”:
من ملك الملوك شرقاً وغرباً الخاقان الأعظم، باسمك الله باسط الأرض ورافع السماء، يعلم الملك المظفر قطز الذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذا الإقليم يتنعمون بأنعامه، ويقتلون من كان بسلطانه بعد ذلك، يعلم الملك المظفر قطز وسائر أمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية وما حولها من الأعمال أنَا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غضبه، سلموا إلينا أمركم قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرفق بمن شكى، قد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب وعلينا الطلب، فأي أرض تؤويكم وأي طريق تنجيكم وأي بلاد تحميكم، فما من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص فخيولنا سوابق وسهامنا خوارق وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال وعددنا كالرمال، فالحصون لدينا لا تمنع والعساكر لقتلنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يسمع، فإنكم أكلتم الحرام، ولا تعفون عن الكلام، وخنتم العهود والأيمان وفشا فيكم العقوق والعصيان، فأبشروا بالمذلة والهوان (فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون)، (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)، فمن طلب حربنا ندم ومن قصد أماننا سلِم، فإن أنتم لشرطنا ولأمرنا أطعتم، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن خالفتم هلكتم، فلا تُهلكوا نفوسكم بأيديكم، فقد حذر من أنذر وقد ثبت عندكم أنّا نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة، وقد سلطنا عليكم من له الأمور المقدرة والأحكام المدبرة، فكثيركم عندنا قليل، وعزيزكم عندنا ذليل، وبغير المذلة ما لملوككم علينا سبيل، فلا تطيلوا الخطاب وأسرعوا برد الجواب، قبل أن تضرم الحرب نارها، وترمي نحوكم شرارها، فلا تجدون منّا جاهاً ولا عزاً ولا كافياً ولا حرازاً، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منا خالية، فقد أنصفناكم إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم والسلام علينا وعليكم وعلى من أطاع الهدى وخشي عواقب الردى وأطاع الملك الأعلى.
على إثر هذه الرسالة عقد قطز مجلساً ضمّ كبار الأمراء والقادة والوزراء وبدؤوا مناقشة فحوى الرسالة ، كان قطز مصمماً على خوض الحرب ورافضاً لمبدأ التسليم ، ولكن كان هناك تردد من قبل بعض الأمراء في قبول ما رآه قطز، عندها قال قطز مقولته المشهورة: «أنا ألقى التتار بنفسي» ثم قال: «يا أمراء المسلمين لكم زمان تأكلون أموال بيت المال ، وأنتم للغزاه كارهون، وأنا متوجه ، فمن اختار الجهاد يصحبني ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته ، فإن الله مطلع عليه ، وخطيئة حريم المسلمين فى رقبته »،
وأنهى كلامة بقوله «من للإسلام إن لم نكن نحن ؟! » وقعت كلمات قطز في قلوب الأمراء فأيدوه في قراره ، وأعلنوا معه الجهاد في سبيل الله ،ثم قرر قطز أن يقطع أعناق الرسل الأربعة الذين أرسلهم هولاكو، وأن يعلق رؤوسهم على باب زويلة في القاهرة .
عزم قطز في شجاعة نادرة علي الخروج بجيشه من مصر لملاقاة التتار في فلسطين بدلاً من أن ينتظرهم حتي يصلوا اليه ، فأن أمن مصر القومي يبدأ من حدودها الشرقية وليس من داخلها
ومن الأفضل عسكرياً أن ينقل سيف الدين قطز المعركة إلى ميدان خصمه لأن هذا سيؤثر نفسياً على نفوس التتار، ومن الأفضل عسكرياً كذلك أن يمتلك المسلمين عنصر المفاجأة فيختاروا هم ميعاد المعركة ومكانها ،عندها بدأ العز بن عبد السلام ومن معه من علماء الأمة بصعود منابر المساجد والحث على الجهاد، وترغيب الناس بالجنة وتزهيدهم في الدنيا ، وتعظيم أجر الشهادة في سبيل الله .
جاء رد قطز:
“قل: اللهم على كل شىء قدير والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبى الأمى، على كتاب ورد فجرا عن الحضرة الخاقانية، والسدة السلطانية نصر الله أسدّها، وجعل الصحيح مقبولا عندها، وبان أنكم مخلوقون من سخطه مسلطون على من حلّ عليه غضبه، ولا ترقون لشاكٍ، ولا ترحمون عبرة باكٍ، وقد نزع الله الرحمة من قلوبكم، وذلك من أكبر عيوبكم، فهذه صفات الشياطين، لا صفات السلاطين، كفى بهذه الشهادة لكم واعظا، وبما وصفتم به أنفسكم ناهيا وآمرا، قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون، ففى كل كتاب لعنتم، وبكل قبيح وصفتم، وعلى لسان كل رسول ذكرتم، وعندنا خبركم من حيث خلقتم وأنتم الكفرة كما زعمتم ألا لعنة الله على الكافرين، وقلتم أننا أظهرنا الفساد، ولا عَز من أنصار فرعون من تمسك بالفروع ولا يبالى بالأصول، ونحن المؤمنون حقا لا يداخلنا عيب، ولا يصدنا غيب، القرآن علينا نزل وهو رحيم بنا لم يزل، تحققنا تنزيله وعرفنا تأويله، إنما النار لكم خلقت، ولجلودكم أضرمت، إذا السماء انفطرت. ومن أعجب العجب تهديد الليوث بالرتوت، والسباع بالضباع والكماة بالكراع، خيولنا برقية، وسهامنا يمانية، وسيوفنا مضرية، وأكتافها شديدة المضارب، ووصفها فى المشارق والمغارب، فرساننا ليوث إذا ركبت وأفراسنا لواحق إذا طلبت، سيوفنا قواطع إذا ضربت، وليوثنا سواحق إذا نزلت، جلودنا دروعنا وجواشننا صدورنا، لا يصدع قلوبنا شديد، وجمعنا لا يراع بتهديد، بقوة العزيز الحميد، اللطيف لا يهولنا تخويف، ولا يزعجنا ترجيف، إن عصيناكم فتلك طاعة، وإن قتلناكم فنعم البضاعة، وان قتلنا فبيننا وبين الجنة ساعه، قلتم قلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال؛ فالقضاء لا يهوله كثرة الغنم وكثرة الحطب يكفيه قليل الضرم، أفيكون من الموت فرارنا وعلى الذل قرارنا؟ ألا ساء ما يحكمون، الفرار من الدنايا لا من المنايا، فهجوم المنية عندنا غاية الأمنية، إن عشنا فسعيدا، وإن متنا فشهيدا، ألا إن حزب الله هم الغالبون أبعد أمير المِؤمنين وخليفة رسول رب العالمين تطلبون منا الطاعة؟ لا سمعا لكم ولا طاعة، تطلبون أنا نسلم إليكم أمرنا قبل أن ينكشف الغطاء ويدخل علينا منكم الخطاء.هذا كلام فى نظمه تركيك وفى سلكه تسليك، ولو كشف الغطاء ونزل القضاء، لبان من أخطأ، أكفر بعد الإيمان ونقض بعد التبيان؟ قولوا لكاتبكم الذى رصف مقالته، وفخّم رسالته، ما قصرت بما قصدت، وأوجزت وبالغت، والله ما كان عندنا كتابك إلا كصرير باب، أو طنين ذباب، قد عرفنا إظهار بلاغتك، وإعلان فصاحتك، وما أنت إلا كما قال القائل: حفظت شيئا وغابت عنك أشياء.
كتبتَ: سيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون، لك هذا الخطاب، وسيأتيك الملك الناصر وبكتمر وعلاء الدين القيمرى وساءر أمراء الشام ينفرون الإيصال إلى جهنم وبئس المهاد، وضرب اللمم بالصماصم الحداد، وقل لهم: إذا كان لكم سماحة، ولديكم هذه الفصاحة، فما الحاجة إلى قراءة آيات وتلفيق حكايات، وتصنيف مكاتبات، وها نحن أولاء فى أواخر صفر موعدنا الرَسْتَن وألا تعدنا مكان السلم، وقد قلنا ما حضر والسلام.
المصادر
البداية والنهاية لأبن كثير
جامع التواريخ للهمذاني
شذرات الذهب للحنبلي
كتاب الملوك للمقريزي
« يسرّني ورئاسه هيئه تحرير تلفزيون الاخبار المصريه وراديو وجريدة ومنصه أن أتقدّم إليكم بأطيب التهاني وأصدق التمنيات بمناسبة حلول العام الهجري الجديد 1447، (Previous News)
Comments are Closed